الفصل الثالث من كتاب انظر إلى عيني.
التعاطف
بقلم:(جون إلدر روبنسون):
عندما بلغتُ الثانية عشر من عمري، تغيرت وجهة نظر الآخرين لي من : " إن لم يتحسن فعلينا أخذه إلى مؤسسة لإيواء المعاقين"
إلى: "إنه مجرد فتى غريب و مريب".
على الرغم من أن قدرتي على التواصل تحسنت بأشواط كبيرة، إلا أن توقعات الناس زادت بأشواط أكثر، وبدأ الأخصائيون النفسيون الذي ذهبت إليهم ينتقدون ما لقبوه بـ:" تعابير غير ملائمة تظهر على وجهي".
أذكر أن أمي دعت ذات مرة صديقتها (بيتسي) إلى منزلنا، كنتُ أتجول في البيت بينما كانتا تدخنان و تتجاذبان أطراف الحديث، حيث قالت (بيتسي): "هل سمعتِ بخبر موت ابن (إيلانور باركر)؟ لقد دهسه قطار يوم السبت الماضي لأنه كان يلعب على سكة الحديد....".
ابتسمتُ عند سماع كلماتها، حينها استدارت فجأة و رمقتني بنظرة مصدومة: "مابالك؟! أترى الأمر مضحكا؟؟!!".
شعرتُ عندها بالخجل و لم أعرف ما علي قوله لها، لذا غمغمت بينما تسللتُ خارجا: "كلا..ليس مضحكا..".
كنت أعرف أنهما غضبا عليَّ لأن التبسم لما قالته أمر سيء، لكنني لم أعرف لماذا ابتسمت، ولم يكن بوسعي الكف عن الابتسام على الرغم من أنني لم أكن أشعر بالفرح أو السعادة حينها، لم أجد بخلدي أي استجابة أخرى مناسبة للوضع. ما زاد الطين بلة وقتها هو أن معرفة ما أشعر به بالضبط كان يزداد صعوبة كلما اقربتُ من سن المراهقة.
عندما تسلتُ خارجا، سمعت (بيتسي) تهمس لأمي قائلة: "ما خطب هذا الصبي؟"...الخطب هو أن أمي أرسلتني لكل مستشار نفسي ممكن، لكنهم ركزوا جميعا على أمور خاطئة. لم تُرحني جلساتهم إطلاقا، بل لم تكن تزيد من حالتي النفسية إلا سوءا في أغلب الأحيان، فكنت أخرج من عندهم و رأسي مليء بما يقولونه عن "الشر الدفين الذي بداخلي" و "أفكاري الإجرامية السايكوباثية".....كانوا جميعا مجموعة من البلهاء الحمقى، ولم يكتشف أي منهم السبب الحقيقي وراء ابتسامتي تلك عندما سمعت عن دهس القطار لابن (إيلانور باركر).
لكنني أدركُ الآن السبب الحقيقي، وقد اكتشفته بنفسي دون مساعدة منهم.
أنا لا أعرف (إيلانور) تلك، ولم يسبق لي أن قابلتُ ابنها، لذا لا يوجد أي سبب منطقي لأشعر بالسعادة أو الحزن على أي شيء قد يحدث لهما، وها هي الأفكار التي مرت بذهني خلال ذلك اليوم الصيفي قبل سنوات عديدة:
لقد مات شخص ما.
تبا..أنا سعيد لأنني لم أمت!
أنا سعيد لأن (المشاغب)* لم يمت!
أنا سعيد لأن والديّ لم يموتا!
أنا سعيد لأن كل أصدقائي بخير!
لا شك أنه كان ولدا غبيا، فمن العاقل الذي يلعب على سكة الحديد؟
أنا سعيد لأنني بخير.
وفي النهاية ابتسمتُ بارتياح،فلا خطر عليَّ من الشيء الذي قتل ذلك الصبي، كما أنني لا أعرفه حتى... على الأقل فأنا بأمان.
لو حصل نفس الأمر في يومي هذا، فأظن أن مشاعري لن تختلف كثيرا عما كانت عليه ذلك اليوم، فالبشر مخلوقات فُطرت على الاهتمام وحماية نفسها و الأقربين، و من الطبيعي أننا لا نهتم كثيرا بالناس الذين لا نعرفهم شخصيا... لكن الاختلاف يكمن في أنني أملك الآن تحكما جيدا في تعابير وجهي.
إن سمعتُ أن عشرة أشخاص ماتوا في حادث حافلة في البرازيل، فأنا لا أشعر بشيء. أدركُ جيدا أن هذا أمر "محزن" على الرغم من أنني لا أشعر بالحزن، لكنني أجد حولي ناسا يحدثون ضجة كبيرة عند سماع مثل هذه الأخبار، ويؤرقني أحيانا أنني لا أتصرف في مثل هذه المواقف مثلهم. قد يكون هذا بسبب الفكرة التي فُرضت علي منذ نعومة أظافري، و هي أن كونك"مختلفا" يعني كونك "سيئا".
أرى بعضا ممن حولي يذرفون كثيرا من الدموع قائلين " يا إلهي!! هذا فظيع!!! أشعر بالحزن لما جرى!!!!" ، ثم يتابعون حياتهم بعدها بوهلة بشكل عادي، حينها أتسائل ما إن كانوا يشعرون حقا بالأسف لما جرى لأولئك الغرباء، أم أنهم فقط يجذبون اهتمام الناس إليهم بالمبالغة هكذا؟ لكنني لا أجد جوابا شافيا.... ألا يموت الناس كل دقيقة في كل ركن من أركان العالم؟ ألن تتفطر قلوبنا الصغيرة إن شعرنا بالأسف الحقيقي على كل وفاة؟
عندما كبرت علمتُ نفسي كيف أتصرف بشكل: "طبيعي"، و يمكنني حاليا التمثيل حتى لا يشك شخص لا يعرفني بأي شيء طيلة أمسية كاملة، لكن تمثيلي يفشل تماما عندما أسمع شيئا ينبغي أن يثير فيّ شعورا قويا، لكن ردة فعلي تختلف تماما عما يتوقعه الآخرون، حينها أنقلب فجأة في عيونهم قاتلا متسلسلا ، وينظرون إلي نفس النظرة التي اعتَدْتُها في صغري قبل أربعين سنة.
قبل عشرة سنوات اتصل بي شرطي ليعلمني أن أبي تعرض لحادث سيارة، وأنه أُخذ إلى المستشفى الفلاني، وقد قلت له : " تبا، هذا فظيع" وشعرت على الفور بالقلق لدرجة الغثيان، بالتوتر، بالهلع.... هل سيموت؟ في لحظات قليلة تركت عملي و أسرعتُ ذاهبا على المستشفى.
أبي لم يمت يومها، وقد تعافى هو و زوجته** التي كانت معه من إصاباتهما ، لكن مشاعر القلق و الغثيان لم تختف من صدري حتى وصلت إلى المستشفى ، ثم زرتهما ، و تكلمت مع الأطباء، ثم اطمأنت نفسي أخيرا بأنهما سيكونان بخير.
قارن هذا مع شعوري عندما أسمع أن طائرة سقطت لتوها في أوزباكستنان، وأن ستة و خمسين شخصا قتلوا في الحادث، أقول وقتها :" تبا، هذا فظيع"، وقد تظنُّ أن استجابتي للحدثين متطابقة لأنني قلت نفس الشيء ظاهريا في كلتا الحالتين، لكنني أعلم أن ما جرى في قلبي مختلف تماما.
الاهتمام بالآخرين - أو التظاهر بأننا نهتم بأمرهم- هو سلوك نتعلمه ممن حولنا، وهو على ما أظن أحد أنواع الشعور المدعو بـ: " التعاطف".
أنا أملك تعاطفا حقيقيا تجاه عائلتي و أصدقائي المقربين، فإن سمعتُ بأن أمرا خطيرا قد جرى لأحدهم، فأنا أشعر بالقلق أو الغثيان أو التوتر، وتتصلب عضلات رقبتي ، و أهتاج بسرعة، هذا نوع من "التعاطف الحقيقي" بالنسبة لي، و إن سمعت بأن شيئا سيئا نوعا ما قد جرى في مكان ما لأحد ما، فأنا لا أشعر في جسدي بشيء لكنني أتفاعل مع الخبر كلاميا. أما إن لم يكن الخبر السيء يتضمن أي خطر حقيقي، فأول فكرة تخطر على بالي هي:" هل أستطيع إصلاح ما جرى؟" و إن لم أكن أستطع، فلماذا أتعب نفسي؟
عندما كنت في الرابعة عشر من عمري أتت أمي إلي قائلة:" أسرع يا (جون إلدر)، السيارة تحترق!"، ذهبتُ إلى الخارج لأرى الدخان يملأ السيارة، فكرتُ بأن علي إصلاح ما جرى، و علي إصلاحه قبل أن يعود أبي إلى المنزل ، سارعتُ بفتح النوافذ و فصل البطارية ، و عندما اختفى الدخان زحفت تحت لوحة العداد لأجد سلك ولاعة سجائر السيارة ذائبا و يحترق، لذا قصصته و استبدلته، واكتشفتُ أن قطعة نقدية صغيرة أسقطتها أمي داخل الولاعة كانت ما تسبب بالحريق الصغير، لذا أخرجتها من هناك.
قمتُ بكل هذا على الرغم من أن السيارة كانت متسخة و مليئة بأكثر شيء مقزز في العالم بالنسبة لي:عقائب السجائر المحترقة و أعواد الكبريت القديمة... قمت بهذا من أجل أمي، ولا أظنني كنت سأقوم بذلك لأجل أي شخص غريب. هذا نوع آخر من " التعاطف الحقيقي ". لم أكن مضطرا لفعل ذلك، كان بإمكاني التظاهر بالعجز والجهل، وكانت أمي لتصدقني إن أخبرتها بأنني لا أعرف كيفية إصلاح السيارة، لكنني شعرت بأن عليّ المساعدة على إصلاح الأمر لأن فردا من عائلتي كان في ورطة.
بالنسبة للغرباء، فأنا أملك ما يدعى " التعاطف المنطقي" تجاههم، مما يعني أنني أفهم جيدا أن موت الناس في حادث طائرة هو أمر سيء، و أفهم أن لكل واحد منهم عائلته التي تحزن عليه، لكنني لا أشعر في جسدي بشيء من أجلهم، ولا اظن أن هناك سببا وجيها لأشعر بأي شيء، فأنا لا أعرفهم، وهذا الخبر لا يؤثر على حياتي... أجل، إنه لأمر محزن ما جرى لهم، لكن تذكر أنه في نفس اليوم مات آلاف الناس الآخرين بسبب حوادث أخرى، أو المرض أو كوارث طبيعية، أو أنهم قتلوا، و مئات الأسباب الأخرى....أشعر بأن علي وضع مثل هذه الأمور بمنظور خاص و أن أحفظ طاقتي لأجل الأمور التي تهمني حقا.
كوني شخصا منطقيا، ومن كل الأدلة التي جمعتها، فلا يسعني إلا أن أستنتج أن أغلب من يظهرون مشاعر درامية صاخبة عندما يسمعون عن أخبار سيئة لا تمت لهم بصلة ليسوا إلا منافقين، وهذا يزعجني كثيرا، لأنهم يسمعون عن خبر جرى في الطرف الآخر من الأرض، ثم تنتابهم نوبات بكاء و صياح وكأن أطفالهم دهسوا في حادث حافلة، بالتالي فهم لا يختلفون في نظري عن الممثلين في التلفاز، فهم أيضا يبكون عندما يطلب منهم ذلك، لكن هل لدموعهم تلك أي معنى حقيقي؟ كيف يسع أمثال هؤلاء أن يقولون لي:" ما خطبك؟! أنت لم تقل شيئا عند سماع ماجرى، ألا تهتم بالضحايا الذين قُتلوا ؟!! إنهم أيضا أشخاص مثلك و لهم عائلاتهم!!!".
قول الحقيقة أصبح أصعب كلما كبرت في السن، لأن أمثالهم لا يريدون سماع الحقيقة، وبما أنني لا أفهمهم، فقد تعلمتُ كيفية تجنب قول ما أشعر به لهم. أفكاري لم تتغير، لكنني لا أعبر عنها كثيرا كما اعتدت.
* المشاغب: هو اللقب الذي يطلقه (جون) على أخيه.
** تطلق والدا (جون) بعد أن كبر، و أعاد أبوه الزواج بامرأة أخرى.
حقوق الترجمة محفوظة لأطلس|Atlas.
.
.
في أمان الله و رعايته :).
انا لا اعرف حقا ماذا علي ان اكتب.. لكن كل ما كتب هنا هو كلام حقيقي جدا .. اتسائل كيف يمكنه ان يكون صادقا هكذا مع نفسه؟ انا دائما ما اشعر ببعض الحزن عندما اسمع شيئا كهذا ولكنه لا يظهر على وجهي ويزول بسرعة وما زاد الطين بلة هو انني لم افهم لما عدم تاثري شيء سيء مما جعل الامور الاجتماعية مخيفة ومربكة ومثيرة للاشمئزاز كوني لا افهم شيئا منها... اتسائل كيف علم بالضبط لم تبتسم وقتها وكيف ادرك حقيقة مشاعره..
ردحذفاعتذر على كتابة اشياء لا علاقة لها بالفصل واشكرك على ترجمته ولكن اذا امكن هل تسنطيع ترجمة المزيد او اخباري بطريقة لقرائته دون دفع نقود